تعكس هذه الرواية الحقيقية في واقعيتها ، والواقعية في سردها ووصفها لتفاصيل حالة التمزق التي يعاني منها كل فرد من الذين فًرضت عليهم الهجرة، فتركوا أوطانهم المشتعلة بنار تقتات من أجساد أبنائها، لينسلخوا سلخاً عن أصولهم، ويفقدوا قسرياً تواصلهم معها. يشهد الشكل الروائي تجاذباً بين شكلين، فهو من ناحية يبدو أشبه بتحليل ودراسة نفسية لأشخاص وقعوا فريسة أنياب عالمين متناقضين، وبين سيرة تاريخية لعائلة، بالرغم من خصوصيتها، تعكس حالة كثير من العائلات التي دفعتها أوضاع أوطانها المذرية للبحث عن وطأة قدم ثابتة، خارج موقع تاريخها وأرضها وجذورها، في بلاد "آمنة"، لها تاريخها وأرضها وجذورها المختلفة، وبالتالي لها معاييرها ومقاييسها وطريقة حياتها التي لا تمتّ بصلة لكل ما ورثته هذه العائلات في أوطانها الأصلية، ولكل ما تحاول أن تورثه لأبنائها. تبدأ الرواية بتحضير لارا وسمير لليلة رأس السنة، وهم الذين أتوا من العراق للإقامة في هولندا، فإبان الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات، تحول العراقيون ذوو الأصول الكردية الإيرانية، ومنهم لارا بطلة الرواية وعائلتها، "من مجرد أقلية تعيش في الظل، إلى مجموعة من المتآمرين والخونة"، "فرموا بهم كالنفايات خارج الحدود"، ليعانوا أشكال الغربة المختلفة: "كانت الغربة تكبر معنا، وتتحول بمرور السنين إلى واقع صعب التصور، فرضتها علينا الحروب"، "حروب مختلفة طويلة الأمد"، و"سلسلة طويلة من الثورات الدموية تمت على مدار السنين في العراق...". تعبّر الرواية عن حالة الهجرة والاغتراب بما فيها من مرارة ومعاناة وتناقضات، بين وطن مجروح ودامٍ ومفقود، جلّ ما قدّمه "ركام من الأعراف والتقاليد جلبناها معنا في حقائبنا وعقولنا.."، وبين بلد أجنبي منظّم ومبرمج لدرجة الرتابة والروتين، استقبلهم، واحتضنهم، لكنهم لن يتمكنوا أبداً من الانتماء إليه أو إلى مواطنيه الهولنديين، فكما تقول البطلة: "نحن على أي حال مهما طال بنا المقام هنا، سنبقى بالنسبة لهم مواطنين من الدرجة الثانية". "هموم الأولاد تقلقنا نحن المغتربين.." فمهنّد الابن المعبّر عن مفارقة الانتماء المتناقض لمصلحة بلدين لا يلتقيان، يتهم "بعدم الشعور بالمسؤولية تجاه أهله في العراق وباقي أمته"، حين يحاول التكلم باسم هولندا التي "منحته الأمن والخبز والتعليم والدواء، وكذلك والأهم حرية التعبير، وهذا ما لم توفره لنا بلادنا الأصلية ولا أي بلد إسلامي آخر". متيّم الابن الآخر "ذلك الولد الطائش"، والذي سبق أن سجن "لمدة شهريين متتالين، بسبب مشاجرة حدثت بينه وبين شاب هولندي" على خلفية منافسة على قلب فتاة، والذي تعرض لسوء المعاملة في السجن. أما الابنة عبير فـ"لقد حفظت الدور الذي لقنّاها إياه على مدار السنين، في أن تبقى باردة وساكنة كالحجارة.."، خوفاً من أن "تفعل مثلما يفعلن صاحباتها" الأوروبيات. تعود الكاتبة إلى الماضي البعيد، لتخبر حكاية الجد حسن زادة وهجرته من إيران هرباً من مرض الطاعون الذي أصاب قرى أعالي الجبال، وبحثّه على "كيفية إثبات ذاته، ونجاحه في تأمين مستقبله". كما إلى الماضي القريب في العراق، بشقاوته وأحلامه الشخصية والسياسية وزمن النضال والقمع والتفجيرات وأوهام "البطولة" والحب الموؤد، وأحلام التغيير، لكن حصيلة كل هذا: "نحن على حالنا باقون، فلا شيء في هذه البلاد يتغير سوى الوجوه هي وحدها التي تتبدل وتتغير..". رواية صادقة تعبّر بدقة وذكاء عن أفكار متأججة وحالات نفسية وأوضاع واقعية حقيقية، وعن صراعات وتناقضات جيل مخضرم، يعيش على الحافة، حافة ازدواجية دائمة تاريخياً وجغرافياً، وزمنياً، مع ما تعكسه من معاناة وتمزّق في تقييم المفاهيم والمقاييس والأحاسيس، خاصة في مواجهة نمو أبنائها الذين سيضطرون إلى البحث والتفكير في مضمون الهوية والانتماء.
 

كتابة تعليق

انتبه: لم يتم تفعيل اكواد HTML !
    رديء           ممتاز
التحقق

الجدار

  • دار النشر : الدار العربية للعلوم/لبنان
  • المؤلف : ليلى جراغي
  • ISBN : 9789953878034
  • عدد الصفحات : 375
  • سنة النشر : 2009
  • عدد المجلدات : 1
  • نوع الغلاف : غلاف
  • حالة التوفر : متوفر
  • الوزن : 0.00000000
  • الأبعاد : X 14.00000000 X 21.00000000
  • $9.00

  • السعر بدون ضريبة : $9.00